جميل أن نضحك وأجمل منه أن نضحك من أنفسنا ففي ذلك تنفيس عما نواجهه في الحياة من تنغيص وإحباط؛ حيث يصبح الضحك "فشة خلق" كما يقول اللبنانيون، ولا أعتقد أن هناك شعبا على وجه الأرض بصرف النظر عن مستواه الاقتصادي ونمط ثقافته ونظامه السياسي ودرجة حريته في التعبير لا يضحك على نفسه، أو انه لا يحب الضحك وتعاطي النكتة سماعا وتأليفا وتناقلا للتنفيس عن مكبوتاته وربما للضحك من أجل الضحك فقط. هذه المقدمة هي مدخل لقضيتنا لهذا الشهر حول تفشي النكتة في المجتمع السعودي في العقود الأخيرة بدرجة تجعل منها ظاهرة تستوجب التحليل؛ لما تنطوي عليه من أبعاد ومضامين اجتماعية و ثقافية جديرة بالتأمل. نشير بهذا الخصوص إلى إن العرب وفي مختلف عصورهم لم يهملوا النكتة والطرائف ونوادر الكلام تداولا وتأليفا؛ فالمكتبة العربية تذخر بالكثير من كتب التراث التي تعد بحق من أمهات الكتب كتصنيفات الجاحظ وكتابه الشهير "البخلاء" حيث يورد الكثير من المواقف الضاحكة لبخلاء مدينة مرو الخراسانية. أما الإمام الجوزي فقد وضع كتبا في النوادر والطرائف ناهيك عما كتبه عن أصحاب العاهات كالعميان والبرص. وفي العصور المتأخرة ظهر كتاب نوادر جحا الكبرى الذي تشير محتوياته انه مترجم عن التركية وربما الفارسية. أيضا فأن جل ما ورد في كتاب الأستاذ عبدالرحمن السويداء "فتافيت" بأجزاءه الثلاثة يدخل في باب النوادر والنكت، علما إن المدرسة الحجازية ككتابات المرحوم أحمد السباعي (خالتي كدرخان) وكذلك الأشعار الحلمنتيشية للمرحوم أحمد قنديل وغيرها من الكتابات كالتمثيليات الإذاعية التي يكتبها الأستاذ يحيى باجنيد تعد رائدة والتي يمكن إدخالها تحت هذا الباب، عدا إن البعض يطلق على ما يكتبه الأدباء من كوميديا تتضمن بعض النكات "أدبا ساخرا" تمييزا له عن النكتة التي تمتاز بالتكثيف وإصابة الهدف المتوخى منها بأقل عدد من الكلمات. تمتاز النكتة أيضا بأنها تأتي باللهجة الدارجة فالنكت التي يوردها الجاحظ على سبيل المثال في "بخلائه" قد لا تضحك رجلا أميا لا يعرف أسرار اللغة العربية كمن هو ضليع بهذه اللغة.
سوسيولوجيا النكتة:
تنبع الأهمية السوسيولوجية "للنكتة السعودية" من حقيقة أن معظم ما يتم تداوله منها هو وليد البيئة الاجتماعية للمجتمع السعودي بمختلف شرائحه ومناطقه وأقاليمه و وقبائله، أو ما يمكن تسميته "بالخصوصية السعودية" كمجتمع محافظ حيث تقوم النكتة بفضح المستور من ثقافة المجتمع مما يقدم مادة خصبة للباحث السوسيولوجي لفهم خفايا المجتمع. هناك بطبيعة الحال ما يتم "توطينه" من النكت اللاذعة بعد إجراء بعض التعديلات والإضافات كما في النكت التي تقال حول سكان صعيد مصر "الصعايدة" على سبيل المثال حيث تحور النكتة بشكل بارع ومن ثم يتم إلصاقها بسكان منطقة معروفة لترسيخ صور نمطية معدة سلفا stereotype حول سكان تلك المنطقة كالسذاجة وربما الغباء الذي يصل إلى حد السخرية المرة. ومن السمات المألوفة في النكتة السعودية تركيزها الدائم على قضايا أصبحت مألوفة جدا تدور حول فكرة التباينات بين الأفراد على أساس مناطقي وقبلي ناهيك عن علاقات الجندر (علاقة الرجال بالنساء) وعلاقة الأزواج بزوجاتهم، أي دوران النكتة في المحيط الاجتماعي- الثقافي أكثر من المحيط السياسي؛ فالأخير يتم استجلاب نكتته - عادة وليس دائما- من مجتمعات أخرى ليصار إلى إعادة إنتاجها بنكهة سعودية.
النكتة وحرية التعبير: